24 sept. 2010

*العَيْن التي تَرى

*

تحاول أن تسير دون أن تنزلق، كما حاولتَ دائما. عيناك لا تحيدان عن الرصيف الأبيض وحذاؤك يطفح بالثلج رغما عنك. تملأ عينيك صورُ الأحباء الصغار الأباعد: إيمان، هدى، عصام... ينِطُّون عبر دائرتَيْ عينيك في نزق طفولي. يدعونك أن تعود سريعاً، ثم يغلفهم ضباب له طعم الدمع المالح والثلج. تجهد نفسَك في نسيان هذه الصورة وتخطو، تخطو، وأشدُّ من هذا الصقيع صقيعٌ يستوطن كلَّ دواخلك. ودواخلك كانت منذ قليل تغلي. منذ كثير كانت تغلي وتشتعل. بالغضب أحيانا كانت تشتعل، وأحياناً بالحنين إلى الوطن الذي لا يأتي.

"ما الوطنُ؟" تسأل نفسَك.

وتقول لك نفسُك: أُفٍّ من هذا الذي أنتَ، ومِن زمانك الداخلي والخارجي، أهذا أوان التساؤل عما يكون الذي تسميه الوطن؟ اِهدأ، اِهدأ وأكيدٌ سيأتي بيننا التحاور وزمانُه عما جد قريب يا...

هادئاً تخطو. تحت الصفر معنوياتُك. بعد الصفر الساعةُ البطيئة، تحت الصفر الحرارةُ. وصِفرٌ ثم صفرُ اليدين أنت الآن وقبل الآن وبعد الآن. لم تنم بعد المدينة، وأنت لا تزال تائها أو كالشبيه بذلك. تحاول أن لا تكترث كما "هُم" لا يكترثون، وأن تمضي كما يمضون ويمرون لامبالين إلا حين يخشونك متى تحاذيهم صدفة. تحاول أن لا تكترث لكنك تفشل في ذلك. تكترث إذاً رغما عنك. تتوقف وتتأمله. كان يتعرى. هو دائما يتعرى. يصبح تماما كما ولدَتْه امرأةٌ "قد تكون كانتْ أمَّهُ". تفكر مليا في عبارتك الأخيرة هذه، وتتذكر أستاذ اللسانيات العربية الفرنسي وأبحاثه حول الدلالة الزمنية في فِعل "كان" وفي الفعل العربي عامة. تقرر أن التفكير في الموضوع سابق للأوان. تبتسم وتقول لنفسك أنْ لا دلالة حاليا في الفعل العربي، وتعتزم أن تبرر رأيك هذا حالما يتطلب الأمر ذلك. تبتسم مرة أخرى وهو الآن قد تعرى تماما. تعود إلى نفسك أولا ثم تعود إليه. الصقيع يقرض قدميك وباقي جسدك، ولكنك لا ترتعش ولا ترتعد. وهل يرتعش الصقيعُ ويرتعد؟

يمرون ويمضون، وأنت لا تمر ولا تمضي. باريس لا تنام، وأنت لا تنام. باريس تبتلعك لوحدك. تبتلعهم لوحدهم. يمضون غير مبالين. تتذكر أنك توقفت أمامه منذ البدء، وهم يمرون و يمضون في وحدتهم وإليها...

كان يتعرى منذ لحظة وكنت أنت تراقبه. هو الآن عارٍ تماما إلا من بطاقة تلوحِّ بها يُمناه في يأس واضح. يترنح فوق بساط الثلج ويرتعد. تقترب منه فتستقبلك رائحة الجعة الرخيصة الشبيهة بطعم الموت. تسأله:

ـ هل أنت في حاجة إلى مساعدة؟

ينضنض لسانه بألم جلي. تركز عينيك على شفتيه فتجدهما مليئتين بالزبد الأبيض كالثلج. تقترب منه أكثر. تُمسِك بيده. تحاول أن تتناول البطاقة من يمناه. تكتشف أنها بطاقة هويته. عيناه تسحان بالاستجداء والاستغاثة. يحاول جاهدا أن يتكلم، أن يقول شيئا ما،غير أنه لا يستطيع فعل شيء. يحاول أن يستطيع...

ـ سـ... سـ... ـــأ... أ... مـــــ... ـــو... ت...

ـ كلاّ، كلا، اهدأ! لعلها الجعة فقط. إن رائحتك تعطعط يا صاحبي! صدقني. اهدأ.

ـ أغــ... غــ...ــثـ... ـــني... سأ... مو...ت!

تكبر رغوة الزبد حول شفتيه. يترنح أكثر من السابق. تجتاحك عدة صور تمر دفعة واحدة عبر رأسك. يدخلك خوفٌ من شيء ما. تتركه وتعدو بعيدا. تجري بكل قواك. تنزلق، و يصطدم رأسك بالرصيف، فتتراءى لك حفنة نجوم لم تجد الوقت الكافي لعدها. تنهض بعد جهد وتكمل السير بتثاقل. تخطو وفي أماكن شتى من جسدك تشعر بألم كبير.

يجدب سمعَك صوتُ أغنية يأتيك من بعيد. تقترب عبر نفس الشارع الضيق فيصبح اللحنُ أكثر وضوحا: "دُوس فرانس... دُوس فرانس... Douce France, cher pays de mon enfance فرنسا الوديعة... فرنسا الـــ... كارت دو سيجور.. الكارت دو... الكونترول دو... العرب دو... الفيزا دو... الطرد دو... ليسكپيلسيون دو... الإخاء دو... المساواة دو... الحرية دو... العنصرية دو... تقترب أنت دو...".

تقترب.

اللحن ينبعث من حانة شبيهٌ تواضعُها بتواضعك. تتعثر قليلا وأنت تدفع الباب وترمي بقدمك اليمنى نحو الداخل. تنغرز فيك الأعينُ وتسيِّجك النظراتُ كالعادة (إنها عادتهم!) تتعثر. تبتسم. هم لا يبتسمون. من بينهم ترى إخوة لك في الله وربما في الوطن... وفي...

ـ بونسوار مسيو، ماذا تشرب؟

ـ بونسوار. أريد آخر جعة في حياتي.

تبتسم لأنه يبتسم. يختفي بعد أن يردد: "حسنا، حسنا". وقبل أن تتناول القارورة تسأله:

ـ أريد استعمال الهاتف من فضلك، هل يمكن؟

ـ طبعا، ما عليك سوى أن تحشوه بالنقود. إنه هناك.

يظل مبتسما وأنت تتتبَّع اتجاه سبابته المعقوفة وهي ترتعش. تصب محتوى القارورة في الكأس وتجرع النصف دفعة واحدة إلا قليلا. تتأكد من ذلك جيدا ثم تمضي متعثرا نحو الهاتف. تتحسس رأسك مرة أخرى فتجد أن البقعة زادت انتفاخا. تشعر بشيء من الدفء وأنت تدير الأرقام. تنتهي من ذلك وتأخذ في الانتظار. يسألك الصوت في الطرف الآخر:

ـ ألو! مَن؟

ـ أنا. هه... هه... هه...

ـ أنتم من؟

ـ عفوا، أنا... أعني... لا يهم من أكون... هناك شخصٌ يحتضر... حالته جد سيئة...

ـ طيب، أين يوجد؟

ـ غير بعيد عن الحانة.

ـ يظهر أنكم... أيّ حانة؟

ـ منها أخاطبكم الآن، إن المعني بالأمر يوجد أمام الباب الرئيسي لمستشفى القديس لوقا. يجب التصرف بسرعة وإلا...

ـ من أي أصلٍ أنت يا سيد؟

ـ مواطن عربي فرنسي... إنني جادٌّ في الخبر وأصلي لا يعنيكم في شيء. أنا لا أمزح. لا وقت عندي لذلك.

ـ سنتأكد من ذلك على أية حال. مستشفى القديس لوقا تقولون؟

ـ هو كذلك.

ـ حسنا. شكرا.

تُغلَق السماعة في الطرف الآخر. تتأكد من ذلك. تغلقها بدورك ويجتاحك بعض الارتياح كأنك تخلصت من عبء ما. تعود إلى آخِر جعة في حياتك مفكرا في الرَّجل، في بقعتك المنتفخة. تفكر في... في الأداء، في مصاريف شراب أهل الجنة... الهاتف خرج عن الحساب... الميترو... الــ....

تؤدي الثمن ولا تنصرف.

تتأمل القارورة: " آخِر جعة في حياتي!". تشرب ما تبقى ببطء لكي يتسنى لك البقاء أكثر وقت ممكن وسط الدفء. تأخذ الصور في اجتياحك وأنت تعود نحو الأعماق العميقة فيك. تبتسم رغما عنك حين تخامرك رغبة المقارنة بين برج إيفل وصومعة حسَّان. فاطمة لم تتمهَّل. رحلَتْ. تبددتْ. تـ... لا تدري. لكنها تحج إليك بين الفينة والأخرى. الأحبة الصغار الأباعد... باريس لا تطاوعك، وأنت تطاوعها. سينْزيا تقول لك بحبها. لا تكف عن القول! تحب وطنك الأصلي أيضا. تكرر لك ولمن يريد أن يسمعها: "يمكن أن نعيش هناك بألف فرنك شهريا أفضل عيشة"، هكذا! لما تضاجعها وتبلغ ذروة لذتها تصرخ باسمك وباسم المغرب و... بيد أنك لا تدري لماذا لا تستطيع استحمالها. ربما كنتَ تدري ولكنك تهرب من ذلك. هو كان يتعرى. لعلهم أتوا لإنقاذه قبل فوات الأوان. هذا ما تتمناه في داخلك. مهمتك قمتَ بها وما عليهم سوى القيام بمهامهم. ذلك أمرهم، شغلهم، أما أنت....

تجرع آخر قطرة من آخر جعة في حياتك وتغادر الحانة.

باريس لا تنام. وأنت تخطو متعثرا تريد أن تنام، أن تنسى. أن تنسى ماذا؟ هكذا تسائل نفسَك على حين غرة. أن تنسى نفسك ربما. أن تنسى الصور الآتية من بعيد. أن تنسى آخر جعة في حياتك، أو هويتك بكل حمولتها التاريخية لتذوب في اللاكينونة، في اللاشيء، في أن لا تكون...

وتخطو. يؤلمك الانتفاخ في رأسك وتخطو. تتردد بين طريقين: الطريق إلى بيت سينْزيا التي أكيدٌ أنها في انتظارك كما لم تتفقا، وبين غرفتك التي لها أبعاد الزنزانة وشكل الوطن. تسير وتقرر أن تقررَ بعد قليل. وبعد قليل تجد نفسك داخل عربة الميترو متجها إلى بيتك. تنتبه إلى ذلك عندما تقرأ اسم المحطة الثالثة. لا تعير للأمر اهتماما وتأخذ في تأمل وجوه الركاب. يشد نظراتِك وجهُ عامل مهاجر يقف محاذيا لباب العربة التي تتزعزع باستمرار. تظل تنظر إليه وتحاول أن تخمن في ماذا يفكر. تتأمله بعمق. تغوص فيه. لا يزال مرتديا ثياب الشغل المطلية ببقع الأصباغ والجبس. شعره متشعث ووجهه لم يُحلق منذ أيام. تنْصَبُّ نظراتك على زوادته الجلدية العتيقة وتحاول أن تتخيل محتواها. تنكب على تعداد ما يمكن أن تحمل من زاد وأوانٍ خفيفة للطبخ أو لتسخين الأكل، ثم تتخلى عن ذلك حين يتعبك التخمين ويخونك التركيز. تعود إلى تأمُّله. عيناه تدوران هنا وهناك، تختلسان النظرات إلى الركاب. نظرات شاردة لا توحي بشيء. لا بل توحي. تتأكد من ذلك حين تركز نظراتك على وجهه أكثر فأكثر. كل ملامح الوجه تتمازج، تدعمها حركات الجسد لكي تقول شيئا ما، لكي ترسل خطابا ما للآخرين. ماذا يريد أن يقول هذا الرجل؟ هكذا تسأل نفسك. لمَن؟ لمَن يريدُ أن يقول ما يريد أن يقول؟ ما ضرورة ذلك؟ نظراتك لا تفارقه، لا ترحمه. في أعماقك تنبعث آهةٌ وتتسامق، حتى أنك لا تشعر إلا وأنك تتمتم: مسكين! مسكين! (وكأنك أنت مْطفْره!)... ماذا لو تجاذبتَ معه أطراف الحديث؟ قد يكون في حاجة إلى ذلك. أنت أيضا في حاجة إلى ذلك. ستسأله عن الأحوال وظروف العمل تحت لسعان البرد والصقيع وملابسات العيش هنا في يم الاغتراب. ستتلو على سمعه حادثة المتشرد المُحتضر أمام المستشفى وكيف أنك سارعت بطلب الغوث له، والدليل أنك انزلقتَ وسقطتَ على رأسك الذي انتفخت فيه بقعة لا تزال توجعك، خصوصا عندما تتذكرها، وهي الآن لا تزال حية ترزق. سيمكنك أن تُرِيها له، وقد يدلكها لك بحنان أبوي ويوصيك بالحذر ثم الحذر والابتعاد عن أبناء الحرام الضالين سواء السبيل. هيَّا! أقْدِم! أكيدٌ أنه سيكون سعيدا. ستكونان سعيدين باللقاء والتعارف. لعله لم ينبس بكلمة طوال النهار كأي وحيد في هذا العالم. اِذهب إليه! هيا! اِذهــــــ... تتردد. مترددا تخطو نحوه. تقف أمامه. أسارير وجهه تتغير توًّا. يرتبك. ينظر إليك نظرات متسائلة، مستغربة ومتشككة. يبتعد خطوة إلى الخلف كأنه يخشى هجوما محتملا. يخيب ظنك. ما هكذا كنتَ تتصور...

ـ أنا لستُ... أريد فقط مؤانستك و...

ـ سييييييييييير تقوّد لدين أمك! بدل ساعة بأخرى الله يرضي عليك وإلا...

ـ ولكنك مخطئ يا صاحبي! أنا لستُ...

ـ سأضغط على زر الإغاثة إن لم تحتشم!

تمتد يده نحو الزر حتى تلامسه. يخيب ظنك. تتراجع وتحاول أن تجد تفسيرا لسلوكه. لعل له أعذاره المقبولة. قد تكون لذيه حساسية تجاه البيرة التي تفوح رائحتها من فمك. ويمكن أن يكون... يجوز. كل شيء يجوز. تتأكد من ذلك وأنت تتأمل ضِعفَك عبر زجاج نافذة العربة الذي يتحول حينا بعد آخر ـ بفعل النور الداخلي والظلام الخارجي ـ إلى مرآة تعكسك. تضحك وأنت تتأمل وجهَك الذي لا تكاد تصدق أنه لك: "كم هو شبيهٌ بالزوادة الناتئة التي يحملها الرجل!". كيف يمكن أن يرتاح له إنسٌ أو جن؟ عيناك جاحظتان وتكاد إحداهما تسقط على الأرض! تتخيلها قد سقطت بالفعل، وهي الآن تتدحرج عبر أرضية عربة الميترو. تهرول خلفها لكي تعيدها إلى مكانها الطبيعي. تحس أنها وهي في هذا الوضع لا تزال تقوم بمهمتها العادية التي خُلِقتْ من أجلها. لا تزال ترى وتقبس صوراً للأشياء التي تصادفها؛ تحس أنها بفعل الاحتكاك بأرضية العربة قد تلطخت بالتراب والأوساخ. يؤلمك ذلك ألما حقيقيا فتحاول جاهدا أن تمسك بها لتنظفها كما يجب. لكنها لا تتوقف وأنت تلهت خلفها. المُهمُّ عينكَ. عينُك عينُك! وهي تخوض مسافاتها المتشابكة عبر أبعاد العربة تلتقط لك صورا ناذرة ما كان بمستطاعك أن ترها قط في الظروف العادية، صور بحجمها الطبيعي: ساقٌ حديدية صلبة صاحبها عجوزٌ وقور... حذاء مثقوب بجانبه قارورة خمر من النوع الرديء... أربعة سيقان متشابكة في ركن معين تتلامس بهستيريا... محفظة نقوذ فارغة و منبوذة في مكان ما... سيدة جميلة بغير لباسها الداخلي... صُور... صُور... سيول صورٍ تتهاطل. تهرول أنت وتهرول، وعينك تعاندك وتفر منك كالزئبق. تستقر في نهاية المطاف عند قَدم أحد الركاب من أهل البلد. تحس بنوع من الانتصار ويدك تمتدُّ للقبض على العين العاقة لكي تعيدها إلى محجرها. قبل أن تصل إليها تتحرك القدم المذكورة وتَحُول ـ عُنوَة!ـ بينك وبين عينك. مرتعشا ومذعورا ترفع رأسك بتوأدة نحو صاحب القدم المجنونة. تسأله:

ـ ما أنتَ فاعل؟

ـ لقد وجدتُها. إنها عيني أنا. في ماذا يهمك الأمر أنت؟

ـ إنك...

قبل أن تتمم احتجاجك يتشنج وجهه كالمصروع ويحْمرُّ كمن يقوم بمجهود عضلي جبار، وبسرعة البرق تُوجِّه عينَك الباقية صوب القدم المجنونة التي تحولت إلى رحىً آخِذة في سحق العين الهاربة. تشعر بألم فظيع. أعصابك تغلي. ينقبض صدرك. تصرخ في وجهه: "مجنووووووووووووون! ... مجـ....". ترفعُ يُمناك إلى أعلى ثم أعلى وتكاد تهوي بها على رأس المجرم اللعين. لكنها عوض ذلك تمتد ببطء وتردُّد لتتحسس مكان العين الفقيدة. تجد أنها مُغمضة بإحكام. تتأكد من ذلك وأنت تنظر عبر زجاج النافذة الذي يتحول إلى مرآة حينا بعد آخر. تفتح جفنك رغما عنه. تتنفس الصعداء: لا تزال عينك في محجرها تدور وتدور كجمرة حمراء. تبتسم ولا تكاد تصدق أن الأمر كان مجرد رؤيا ليس إلا. مسكين! مسكين! أنت مسكين. هي مسكينة. هو مســ.... هو لا يزال ينظر إليك خلسة دون أن يغادر مكانه. لعله كان يتفرج عليك متسائلا ماذا أصابك وماذا كنت تريد منه. ينظر إليك نظرات عدوانية بينما ينظر إلى الآخرين ـ النصارى ـ بتملق واضح. لعله يريد أن يقول لهم شيئا. تتأكد من ذلك حين تَدخُلُه وتغوص فيه، حين تُصْبِحه وتكُونُه: "أنا مسكين. لطيف. دعوني في أمان. أنا هنا مقهور مغلوب على أمري. حاولوا أن تفهموني يا النصارى يا أولاد القـ... أنا رجل طيب. أريدكم أن تقبلوني ريثما أعود من حيث أتيت. لماذا ترفضونني وتخشونني؟ اُنظروا! ها أنتم، انظروا كم أنا لطيف ومؤدب. أنا كذلك لي أطفال وزوجة نائية ووطن يعْرِضني للكراء وبطاقة تعريف تستعصي على التزوير. إن كنتُ فُرضْتُ عليكم فأنا لا أبغي فَرضَ شيء. أنا لي... لي أنا... وأنتم؟... لا تزرعوا جسدي بمزيد من العقد والـ...".

أنت تبقى.

هو يختفي.

يقذفك كالبراز من داخله ويختفي. أنت لا تختفي ولكنك تبقى لوحدك. يبقى لك وحدُك. تُكمِل رحيلك فيك وفيه وفي عربة الميترو. تتلذذ بغرغرة في بطنك لآخر جعة في حياتك. تنزل في المحطة الأخيرة، وعوض أن تفكر في شيء محدد تفضل أن تحلق وتهاجر إلى بعيد. هذه ليلتك يا حَمدان! ـ تقول لنفسك ـ فاذهب عميقا فيها! لكن لا تنس أن تعود. لا تنس أن...

تحلق، ثم تغوص عميقا في نفسك وفي نفسك فقط. تكتشف أنك واحد ومتعدد، أنك أنت وأنك هو، وأنك... أنك وصلتَ الغرفة الزنزانة، وأنها قد وصلتْك ودخلتْك إذ أنت داخِلَها الآن.

تحس بقليل من الدفء مرة أخرى. تكتشف أن عينك مغمضة وأنك تبدو كالأعور. تفتحها بغضب وتنهرها عن هذا النزق والطيش: "كفاكِ لعبا وإلا فقأتُ دين أمك!".

تستلقي بملء ثقلك على السرير الفردي وتغوص نظراتك في سقف الزنزانة. لا تزال الصور تزورك، تدخلك وتغادرك بالتتابع في سرعة غريبة، لذلك تعجز عن التركيز. تغوص عينك المفتوحة في المصباح الكهربائي وسط السقف. نظراتك تتلاشى. تجهد نفسَك في القيام والتوجه نحو الثلاجة الهرمة. تفتحها وتتناول قارورة جعة أخرى. آخر جعة في حياتك! هذه المرة لا مجال للتردد في اتخاذ القرار. إنها الأخيرة ما في ذلك مساومة. تشرب. لعلهم راحوا لإنقاذه. أكيدٌ أنهم أتوا في الوقت المناسب ومدوا له العون. تشرب. تمتد يدك بعفوية نحو المذياع وتفتحه.

(الانتخابات الرئاسية. محاولات إرهابية. التطرف الإسلامي. تصريحات زعيم الجبهة العنصرية. ب ب تستنكر ذبح الأكباش في عيد الأضحى. انقسام حزب كذا. تحالف اليمين ضد اليسار واليسار ضد اليمين. تعايش الــــ..... توَسُّط الوسط... تقوقُع الـــ.... المقدمة. المؤخرة... كلب تائه من غير مأوى... متشردٌ مطعونٌ في القلب لفظ أنفاسه الأخيرة أمام مستشفى القديس لوقا.... يبدو من خلال نبرة الصوت أنَّ الجاني من أصل عربي...).

تستيقظ من غفوتك. من صحوتك!

تفتح جيدا أذنيك.

الخبر يعنيك لا محالة. ليس في ذلك أدنى شك، فهو يفيد بأن "المجرم بعد ارتكاب فعله القبيح اتصل بالشرطة من حانة مجاورة". بحثوا في كل الحانات المجاورة للمستشفى. العجوز صاحب البار يتذكر "أنّ شخصا لا ترتاح النفس لرؤيته استعمل الهاتف بعد أن ابتلع ما سماه آخر جعة في حياته و...".

يغلي دمك. تتجزأ. تتوزع.

تغادر الغرفة. تعدو وسط الشارع. تتوقف. تحاول أن تهدأ. لا تهدأ. المتشرد المذكور لم يكن مقتولا. كان فقط يعاني من أزمة ما. إن يكن حقا قُتِل فبعد مغادرتك له قصد طلب الإسعاف. هكذا تمَّ الأمر. مَن قتله؟ لا تدري. لا تريد أن تدري. ولكنهم يدْرون... يَدْرونك أنت!

تحاول أن تهدأ. لكنك لا....

من قتل....؟ مَن قتل مَن؟

تفكر أن الحل الناجع هو أن تختفي، أن لا تظهر بعد الآن، أن تقص لحيتك الطحلبية، أن تعود... أن تعود إلى أين؟

وأنت تعدو عائدا إلى الغرفة من جديد يجذبك هاتف عمومي.

ـ ألو! لقد سمعتُ الخبر. أنا لم أقتل الرجل. أنا...

ـ من أنتم؟

ـ تعرفون جيدا من أنا. حين اتصلتُ بكم كان لا يزال حيا. تحملوا مسؤولياتكم. مع السلامة.

تُغلق السماعة في وجهه. تعدو نحو الغرفة. قبل أن تستلقي على السرير تفتح آخر جعة في حياتك. أكيدٌ أنها الأخيرة هذه المرة. ما في ذلك شك. تغوص نظراتك في السقف. وفي السقف تنبع بالتدريج صورة طفلتك الصغيرة. تنِطُّ وتنط قبل أن تنتبه لوجودك. تراها تكبُر وتكبر. تماما كما كانت تكبر في غيابك عبر كل هذه السنوات بعيدا عنك. تتلاقى نظراتكما. تقف هي مشدوهة، ثم تبتسم لك. إنها إذا عرفتْك! إنها تتذكرك. هي لا تنسى. أنت مشدوهٌ ومشدودٌ إلى الصورة والسقف.

ـ إيمانْ! ابنتي! لماذا أنت بعيدة؟ لماذا أنا... ساعـــ... سااااا.... عِديييييييينييي.....

تنطفئ الصورة في السقف.

وقبل أن تنطفئ أنتَ، تمتدُّ يدك رغما عنك لتتناول آخر جعة أخرى في حياتك. تشرب، وعينك العاقة لا تزال ترى ما لا تراه العين الأخرى.

* من مجموعة "أصوات في الجسد" الصادرة عام 1999.

2 commentaires:

توفيقي بلعيد a dit…

لا زال هذا النص يحتفظ براهنيته، أو لعله يحتفظ بحالتك الممتدة، فتكون أنت الذي يحتفظ بكل ماضيه بهذا النص..لست أدري لماذا مررتث من هنا، لعلي أبحث عن شيء ضائع، عن لاشيء
قبلاتي للزوجة والصغار

Mostafa ABBA / مصطفى عبَّا a dit…

شرفٌ لي أن تمر من هنا أيها الصديق العزيز
مرحبا بك متى تشاء
تحياتي