1 oct. 2009

انفِصَال

أدارت نحوه وجهها. سألته بغنج وهي تتلوّى في الفراش، تماما كقطتها السوداء الكسولة:

- هل تحبني يا أميري العربي؟

فكر مرة أخرى في هذه التسمية التي طالما نهاها عن استعمالها. لقد رجاها مرات عديدة أن تناديه باسمه الخاص (عبد الرحمن) دون أن تنعته بأي وصف آخر. ابتسم وهو يفكر في داخله بأنها حقا عنيدة وصعبة المراس. فكر أيضا في سؤالها الذي لم يكن يسمعه للمرة الأولى، وربما لم تكن المرة الأخيرة. كانت نزاهته وكذلك إحساسه لا يسمحان له بجواب إيجابي، الجواب الذي كانت تتمناه بالتأكيد وتريد انتشاله بأي ثمن. "أن أكذب على امرأة! هذا أمر ليس من شِيَمي، إنه ضعف وانعدام شخصية"، هكذا كان يقول في نفسه بفخر واعتزاز. ثم إنه منذ بداية تلك العلاقة التي كان يعتبرها عابرة رغم قِدمها بسنتَين كان واضحا وصريحا معها بما فيه الكفاية. غير أنها لم تفقد الأمل وظلت تكرر نفس السؤال كلما أتاحت لها الفرصة ذلك.

تنحّى عنها بلطف وهمَّ بلباقته المعهودة أن يغير الموضوع. أمسكتْ بذراعه فجأة وسحبته نحوها بعنف حتى استلقى بقربها كما كان في السابق.

- لا تتهرب. أجبني، هل تحبني يا "أبْدُو"؟

استغرب "عبْدُه" لخشونتها المفاجئة. فكر لحظة خاطفة قبل أن يردد متلعثما:

- لا أدري بعد يا "مادلين"... أنا أُكِن إليك كثيرا من الـ... من الحنان والاحترام... و...

احمرَّ وجهها. من عينيها المليئتين بمزيج من الخيبة والغضب انطلقت سهامٌ تخترقه. كانت شفتاها ترتعشان بعصبية غير مألوفة وهما تحاولان نطق شيء ما. صرختْ فجأة بعد جهد:

- هيه! تحترمني؟ جميلٌ هذا! يا له من احترام غريب! تحترمني وتنكحني؟ هاه؟ أجب! أي احترام هذا؟ كُن شجاعا وقُل بأنك لا زلت مولعا بتلك القحبة التي هجرتك وتركتك كالكلب... تحبُّها هيّ وتحويني أنا! لا يا سيد "أبْدُو"... لا. إنني أرفض ذلك. لقد سئمت ذلك. سئمتُكَ أنت أيضا. لا أريد رؤيتك بعد الآن. هيّا! أخرج من بيتي! لا تعد أبدا! اِذهب إلى قحبتك...

حاول أن يهدئ من غليانها، ولكن ذلك لم يزدها إلا غضبا وانفعالا. ارتعدت فرائصه، وخشي في لحظة ما أن تؤذيه جسديًّا كأنْ تمتدَّ يدُها بصورة آلية إلى سكين أو شيء من هذا القبيل وتطعنه بدون شعور منها كما يحدث ذلك عادة في الأفلام أو في جرائم الحب التي كثيرا ما تتردد في الصحف وأخبار التليفزيون. أصيب بهلع حقيقي. ارتدى ملابسه كيفما اتفق وصفق الباب خلفه. وهو ينزل الدرج مهرولا ظل صوتها يطارده . كان صراخا هستيريا لم يشهده من قبل .

كانت الساعة تقارب منتصف الليل، وكانت سيارته تخوض الشوارع بسرعة نيزكية. لبث يضغط على دواسة البنزين كالْمُطارَد، ولم تمنعه الأضواء الحمراء الخاصة بتنظيم المرور عن التوقف احتراماً لقانون السير. كان يفكر فيها، في "مادلين" الوديعة التي تحولت من ملاك لطيف أشقر إلى "ميدوزا" عدوانية ومجنونة و... وتمثَّل عينيها المشتعلتين نارا. لقد تحوَّلتا فجأة إلى جمرتين حمراوين بعد أن كانتا زرقاوين كغدير في فصل الربيع. قبل قليل كانت نظرات تلك العينين تخترقه بازدراء وغضب، كانت تفتت جسد "الأمير العربي" وتحيله إلى مجرد امرئ جدير بالاحتقار، كانت تحيله إلى لا شيء، إلى عدم...

أطلقت بعض السيارات أبواقها فخمَّن أنها تعنيه. خفّف من السرعة وحاول أن يصبح أكثر هدوءا. ازورّ نحو الشمال ثم وجَّه السيارة عبر شارع "غاريبالدي". بعد لحظة توقَّف، أطفأ محرك وأضواء السيارة بسرعة البرق وعدا نحو البيت مستغنيا عن استعمال المِصعَد الكهربائي. تسلق السلم حتى الطابق الخامس لاهتاً. التجأ مباشرة إلى الحمّام، فتح الصنبور وأسلم رأسه بكامله إلى سيل الماء البارد. أحسَّ ببعض الانتعاش والراحة. جفّف وجهه و شَعَر رأسِه ثم صفّفه بعد أن أصبح أكثر هدوءا. أثار انتباهَه طيفٌ تحرَّك في المرآة التي غطَّاها بعض الضباب. ركز النظر جيدا، رآى نفْسَه أمام نفسِه. قال له ضِعفه مؤاخذا:

- برافو! لعلك الآن فخور بنفسك أيها الجبان ؟

قام "عبده" بحركة لامبالاة وتبرُّم وهو يغض الطرف عن مُخاطِبه. حاول الانسحاب ولكن هذا الأخير استوقفه باستفزاز. صرخ "عبده":

- كُف عن محاصرتي أرجوك! أنا لست جبانا، إن سلوكها الغريب فاجأني، هذا كل ما في الأمر .

- لماذا لم تقل لها كل شيء إذاً؟

- سأفعل ذلك في المرة القادمة.

قهقه الوجه في المرآة ساخرا مستهزئا ثم قال:

- لا يا صاحبي، لن تكون هناك مرة قادمة. أنا أيضا لم أعد أصدقك. لطالما عاهدتني بأن تكُون أنتَ، بأن تكُون نفسَك، أيْ أنا، ولكنك لا زلت تماطل. يجب أن تعرف...

قاطعه "عبده" غاضبا:

- لا أريد أن أعرف شيئا. قل لي أنت ما العمل وخلِّصني. أنا متعب وأريد أن أنام. هذا كل ما أتمناه الآن.

- لقد منحتك من الحرية أكثر مما تستحق. تسألني ما العمل؟ تعالَ إليّ كي أشرح لك الأمر. أُدخل، أُدخل...

تناول "عبده" علبة الأقراص المنومة مصمما العزم على ألا يستيقظ إلا في منتصف نهار الغد. ابتلع قرصين دفعة واحدة، وما هي إلا لحظات حتى غط في سبات عميق.

لم يزره حلم ولا كابوس خلال تلك الليلة. غير أنه ذات لحظة أحس بطنين مزعج يطرق أذنيه. تململ في الفراش محاولا تجاهل الأمر ولكن دون جدوى. ذبت علامات الصحو في جسده رغماً عنه. فرك عينيه وهو يمعن النظر في الساعة الحائطية التي كانت تشير إلى الخامسة والنصف صباحا. توالى الطنين الذي أخذ بالتدريج يتحول إلى رنين جرس الباب. استجمع أطرافَه متعثرا واتجه نحو هذا الأخير. سمع صوت أنثى تستعطف: "أبْدو"! أنا "مادلين". اِفتح لي من فضلك. أعرف أنك هناك...

فتح الباب مترددا وهو يستغرب أمر هذه الزائرة التي لا يعني له اسمها شيئا. وجد نفسه أمام قَدٍّ متوسط الطول صاحبته شقراء وسيمة تقارب سن الأربعين. أمعن النظر في وجهها وشدته عيناها الزرقاوين كغدير في فصل الربيع. كانت جميلة بالرغم مما بدا عليها من شحوب وعلامات الإرهاق التي كانت توحي بأن هذه المرأة لم تذق طعم النوم طوال الليل. بادرته بصوت مليء بالاستجداء:

- سامحني يا أميري العربي. لقد فقدت أعصابي البارحة. أنا أحبك، هل تعلم ذلك؟ دعني أدخل .

كان "عبده" فريسة للحيرة والتساؤلات. خيل إليه لحظة أنه كان يحلم، ولكن صوتها المستعطف أعاده إلى أرض الواقع. تمتم أخيرا في محاولة توضيح اللُّبس:

- أنا آسف يا مَدام. أنا لا أعرف من تكونين. يبدو أنك أخطأت العنوان و...

قاطعته بصوت عال:

- "أبْدو"! لا تلعب معي هذه اللعبة القذرة. لقد أسأتُ إليك حقا و ها قد أتيت أعتذر. ماذا تريد أكثر من هذا؟

كانت تضم بين ذراعيها قطتها السوداء الخاملة مداعبة إياها برقة وحنان وكأنها تداعب طفلا رضيعا. وكانت القطة العجوز المدللة تموء بتلذذ وكأنها تطلب المزيد من العناية. قالت "مادلين":

- اُنظر إلى "ميمي" يا "أبْدو"، إنها تستعطفك هي الأخرى. دعنا ندخل.

تأفف "عبده" وحاول أن يكون أكثر وضوحا:

- سيدتي، أنا لا أعرفك ولا أعرف "ميمي". ثم إن اسمي "عبْدُ الرحمن" وليس "أبْدو".

غرزتْ فيه نظرات استنكار واستغراب. سادت لحظة صمت قبل أن تسأله فيما يشبه الظفر متخذة هيأةَ مَن نصب لغريمه العنيد كميناً وظل ينتظر وقوعه المُؤكَّد فيه. قالت وابتسامة ماكرة لا تفارق شفتيها الجافّتين:

- حسناً، إذا لم تكُن "أبْدُو" فأين هو إذاً؟

ردّ ببرودة كمن يسرد خبرا بديهيا:

- هناك في الحمّام. لقد ابتلعته المرآة.

- هل جُننت؟ أي مرآة؟

حاول أن يوصد الباب ولكنها حالت دون ذلك. صرخت في وجهه محتجّة:

- "أبْدو"! يبدو أنك تناولت مخدِّرا هذه الليلة، أو أنّك قرأتَ أحد تلك الكتب التي تفسد دماغك، لقد حذّرتُك من ذلك مرارا! كُفّ عن التصرف كالحمار و دعني أدخل!

- سيدتي، اِعلمي أنْ لا علاقة لي بالكتب وعقلي سليم... اطمئني. مع السلامة.

كاليائس من حالتها المستعصية صبّ عليها نظرات باردة خالية من أي إحساس.

حدجته بنظرات ثاقبة، غاصت عيناها الزرقاوان في وجهه المتصلب كالثلج. لم تجد فيه ملامح أميرها العربي. كانت أمام شخص آخر... سيل من الأفكار انجرَف في رأسها وهي تتراجع إلى الخلف كالمذعورة...

انغلَق الباب. ساد صمتٌ. وغط الأمير العربيُّ في سبات عميق.

Aucun commentaire: