19 oct. 2009

مجْنُون مِيلودْيَا



ثم قال لي: أُكتبْها وتوكَّل على الله.
أجبتُه: أنا يا صاحبي لست بكاتب قصص ولا بشاعر. أما النُّصوص التي أشرتَ إليها فتعود إلى سنين المراهقة، وذاك عهد مضى كما تعلم. لم أعد أقوى على كتابة حرف واحد في هذه البلاد.
ألَحّ: لا عليك. أُكتُب قصتي وسوف ترى...
قاطعته متبرما وقد أزعجني إلحاحه: لا أستطيع... وأكثر من ذلك أين سأنشر قصتك؟ لا أحد يعرفني، لا هنا أو هناك أو في أي مكان آخر... لا مجلة ولا صحيفة ولا هم يحزنون. أين سأنشر قصتك؟ أَعلى سطحِ البيت كالغسيل؟
ردّد ببرودة دمه المعهودة: أنت لا تعرف قيمتك، أنت ضحية لتواضعك، اِفعل ما أقول لك وسوف يأتيك الفرج بإذن الله. صدِّقني. خذ قلما وورقاً واستمع إليّ...
أذعنت للأمر علما مني بأنه لن يخلي سبيلي إلا بعد أن ينال بغيته، هكذا كان دائما ولم يغير من نفسه شيئا. كانت السنوات العشر التي قضاها في "باريس" البعيدة بمئات الكيلومترات عن مدينة "ليون" حيث أقيمُ كفيلة بأن تريحني منه كصديق عرفته منذ الطفولة. لقد غاب عني طوال هذه السنين ولم يصلني منه إلا نتف أخبار كانت تأتيني من هنا وهناك. ها قد تذكَّرني فجأة وعاد بعد كل هذا الغياب، وقد كنت أظنه نسيني وذاب في روتين حياته اليومية الباريسية تلك. عاد وفي جعبته ما يزعجني. ولكن ما عساي أن أفعل؟ إنّ للصداقة أحكاما! أليس كذلك؟
تناولت قلما ومجموعة الورق وتصنَّعت وضع الذي يهُمّ بالكتابة. بدا على وجهه انشراحٌ ما، وردد مسرورا كطفل: هيّا، هيّا... أُكتُب...
- ماذا تريد أن أكتب؟
قال متلعثماً في البداية: "عن الملاك تحدثت به الكتب السماوية، وبه تغنى الشعراء، ووصفَه عباقرة الفن والأدب... أمَّا أنا فقد وجدته ورأيته وعِشتُه وعرفته عن قرب... ".
استغربت لما يقول وخلت أن بعقله مسّا من الجنون. ازددتُ تظاهرا بالكتابة عساه يسارع إلى تتمة الحكاية التي أخذت تحرك فضولي. أضاف بعد أن بلع ريقه: "اِسمَع، سأطلق العنان لنفسي في الكلام، وما عليك سوى أن ترتب الأحداث فيما بعد حسب هواك. لست في هذه اللحظة أقوى على التركيز لأن الكلمات والصور تتزاحم في رأسي وفي حنجرتي... ماذا حصل؟... حصل ذلك في مكان ما... في محلًّ عموميّ. هذا لا يهمّ. ما يهمّ هو أنني أحببتها كما لم أحبَّ امرأة من قبل. حملتُها في قلبي، في جوارحي، في عينيَّ وفي كياني... جُننت بها وجُنَّت بي فيما بعد. كانت قد دعتني إلى شرب كأس لكي تشكرني على الخدمة التي أسديتُ إليها. وافقتُ للتو وتبعتها. كان جسدها الوديع يجرني كالمغناطيس بطريقة غريبة وناذرة. في المقهى تناولت هيّ شايا أسود وفضّلت أنا قهوة سوداء. نعَم، نَعم، القهوة لا يمكن أن تكون إلا سوداء. أعرف ذلك فدَعْ ملاحظتك عندك، ليس هذا أوان المزاح. كانت جالسة أمامي بجسدها الصغير كطفلة. بهرني جمال وجهها بالرغم من كل شيء. طربت لصوتها الدافئ الحالم الذي كانت نبراته تسافر بي عبر السماوات السبع وما فوق. خشيتُ على نفسي منها! لماذا؟ لأنني... لأنني أحسست بأنها هيّ... هيّ التي كنت أنتظر... ربّما. لم أكن متأكدا من شيء... لست تدري بأن "ميلوديا" فتحت لي آفاقَ جديدةً لم أعهدها من قبل على مستوى الروح والجسد. ألم تقل أنت نفسك يوما بأن الجسد عرَضٌ في حين أنَّ الجوهر دائمٌ خالدٌ و... "
قاطعتُه وبي من الفضول ما فاق الحد:
- لا أذكر شيئا من ذلك. ولكن حكايتك لا رأس لها ولا أساس؟ ماذا تريد أن تقول في العمق؟ اختصِر.
تنحنح قبل أن يستطرد:
- الأساس كان "ميلوديا"، والرأس كان "ميلوديا"... أُكتُب... أُكتُب...
تظاهرت بالكتابة. أضاف: "تِلْو لقائنا الأول افترقنا بعد تبادل أرقام الهاتف. في اليوم نفسه رن التلفون في بيتي قبيل منتصف الليل. كانت هيّ وراء الخط وكنت سعيدا بذلك. دامت المكالمة ساعة ونصف. كانت قد أدركتْ خلال لقائنا في المقهى ولعي بالأدب الفرنسي بعد الرياضة. لذلك أطعمتْني مزيدا من الأشياء عن "بودلير" و"رامبو" و"لافونتين"... وعرَّجَت على "ابن المقفع" و"الجاحظ" اللذين عرفتْهما عن طريق الترجمة وبعض قراءاتها الطفيفة للأدب العربي القديم كما قالت بتواضع ناذر. هل تدري بماذا أجبتها حين انتهت من كلامها؟ لقد صرحت لها بجرأة غير معهودة: أُحبك يا "ميلوديا"! أجابتني بعد صمتٍ مُوحٍ: "أنا أيضا يا "عزُّوز"... ولكن جسدك وجسدي لا يمكن أن يلتقيا. وإن التقيا فلن يلتحما إلى الأبد". هكذا كان. شيء لا يصدَّق أليس كذلك؟ ولكن تأكَّد بأن تلك هي الحقيقة. سألتها: "ما الأبد؟ قالت: أعني بذلك أن الطريق مسدود أمامنا. جسدي لا شيء أمام جسدك المليء بالحياة، أمام جسدك الشغوف بالرياضة. هل تفهمني؟".
لاح له بأن يمناي كفَّت عن الحركة ولم تعد تخربش شيئا على الورق. غرز فيها نظرات عينيه، ثم نقل نفس النظرات نحوي وسأل:
- لماذا توقفتَ عن الكتابة؟
طمأنته مبتسما: لا عليك. إنني أكتب، أو بالأحرى أحاول ذلك. استمِر.
عاد إلى حديثه الذي كان يذكرني بكرسيِّ الاعتراف في حضرة كاهن داخل الكنيسة. فهمت أنه أحبها بجنون وأنها بادلته نفس الشعور. ظل يكرر على سمعي ذلك، وجعلتُ أحثُّه على توضيح أمره دون الدخول في التفاصيل. كان منفعلاً، وكان يشع من عينيه غضب وسخط. ساءني وضعه وأنا أتأمل وجهه وكامل بنيته التي ما كان أقواها بفضل تعاطيه للرياضة التي ولع بها منذ الصغر. كان أمامي ذابلا منهارا كاليائس الذي لم يعد ينتظر من الحياة أي شيء.
لم أكتب شيئا مما حكى، ولكنني أعرته سمعي بصبر وفضول. علِمتُ من بين ما علمتُ أن زيارته لي وتوقفَه في مدينة "ليون" ليس سوى محطة في طريق عودته النهائية إلى أرض الوطن، هو الذي اندمج بالمعنى الإيجابي والكامل في هذا المجتمع!
أعرته سمعي حين خاض في الكلام. كان يتحدث هذه المرة بطريقة آلية، بدون انفعال ولا عصبية أو توقُّف.
طال اختلافهما على بعض. وحين تأكد الواحد منهما من صدق مشاعر الآخر عقدا العزم على أن يرتبطا عبر مصير واحد مشترك داخل بيت يضمهما معاً. من قبْلُ كانت تحدثه عن أهلها وعن الفرصة التي لا بد ستأتي لكي تُقدِّم لأبويها حبيبَها وشريكَ حياتها القادمة. حلَّت إذاً هذه المناسبة التي انتظرتْها طويلا، ولكنْ حلّت المفاجأة أيضا وخيبةُ الأمل: حين علم السيد "مارتان" بالأصل العربي لفارس أحلام ابنته الوحيدة وقف متصلبا كالجبل ووطَّد العزم بكل ما يملك من قوة على الحيلولة دون هذا الارتباط الذي لم يكن في حسبانه قط. صال وجال، أرغى وأزبد، قلب الأرض وأقعدها، ثم أقسم بأنْ لا مكان في بيته لعربيٍّ كيفما كان، وأنه لن ينحطّ حتى المرتبة الدُّنيا ليجد نفسه مستقبِلاً لمخلوقٍ من هذا الصِّنف ليصبح صهرا له وزوجا أو في أقل الحالات خليلا لبنته و... و... و...
قال:
"ولملمتْ "ميلوديا" أمتعتها لكي تستقر في بيتي. قطعَتْ حبل الاتصال بينها وبين ذويها. ساءني طبعاً أن تتخذ الأمور ذلك المجرى، وساءني أكثر الموقفُ السلبيّ الذي وقفه طواعية السيد "مارتان". كانت تقول لي حين تراني ساهما واجما :
- إن أبي لطيف في العمق ولا علاقة له بالعنصرية. لسوف يلين مع مرور الوقت. مشكلته الحقيقية هي أنه شارك في حرب الجزائر وترك في نفسه ذلك أثرا سلبيا.
كانت كلما كررت ذلك وكأنها تعزي نفسها أولا، ظانةً أن السيد الأب سيظهر على الساحة إن عاجلا أو آجلا، كنتُ أجيبها بابتسامة عفوية مؤاسية، ثم أضمها إليّ دون تعليق آخر. وبعد ذلك سرعان ما نتحوَّل معا إلى طفلين مشاغبين. كان يحلو لها أن أطاردها عبر أبعاد الشقة حيث تختفي خلف بعض الأثاث أو تحت المائدة في المطبخ، وحين أمسكها أخيرا كنت أرفعها في الهواء كدمية ثم أتلقفها بذراعيّ وأعيد الكرَّة مرات حتى تُصدِر مزيجا من الضحك والصراخ كما لو كانت طفلة في سنواتها الأولى. تلك كانت لعبتها بل لعبتنا المفضلة حيث ننسى كل شيء...
قررنا في نهاية المطاف أن نتزوج رغم أنف الجميع. أخذَتْ موعدا لدى عُمدة الدائرة الحضرية، وعكفنا على تحضير الوثائق الرسمية اللازمة لتكوين ملف القِران حسبما يتطلبه القانون. كان الأمر يتعلق ببضعة أيام ويتمّ كل شيء. نعم يا صديقي، لقد تمَّ كل شيء! لقد انتهى كلُّ شيء!".
أصابت صوتَه غصةٌ فتوقَّف عن الكلام برهة. تناول جرعة ماء قبل أن يستمر في سرد معاناته. كنت أفكر فيما قال، فيما عاش وعانى وفيما كان يقول مع ما يواكب ذلك من إجهاد في استحضار الذكريات المُحرِقة.
استيقظ ذات صباح ثم هرع كالعادة إلى صندوق البريد. أثارت انتباهه رسالة خاصة كانت مدسوسة بين الرسائل الأخرى التي احتواها الصندوق. كان مكتوبا على الغلاف عنوان مركز الشرطة. فضَّ الغلاف بعجالة وسحب من داخله الاستدعاء الرسمي الذي كان يأمره بالحضور أمام رئيس القسم في أقرب الآجال لأجل غرض هام. ارتبك لحظة حائرا في الأمر متطيِّرا، فكل الظروف من قبل لم تسمح له أن يكوِّن صورة طيبة عن شرطة هذا البلد. وأكثر من ذلك لم يسبق أن صدر عنه أي سلوك يتطلّب أن يقوم باستدعائه رجال أمن هذه الأرض السعيدة! تساءل طويلا عن ماهية "الغرض الهامّ" وعزم على تلبية الدعوة في زوال نفس اليوم.
تناول رئيس القسم بطاقة الإقامة الخاصة بصاحبي وفحصها بعناية كما لو كان أمام وثيقة رسمية طالَها التزوير. نقَّب في جهاز الكمبيوتر عن معلومات ما، وبعد ذلك قال بنبرة جافة:
- بطاقتك هذه يجب أن تُجدَّد كل سنة، أليس كذلك؟
- نعم سيّدي العميد.
- هذا يعني أنّ وجودك في فرنسا أمرٌ مؤقت. طبعا أنت تحلم مثل كثير من أمثالك بالحصول على إقامة دائمة؟
أجاب صديقي بنوع من الاحتجاج:
- سيدي لو كان حلمي كما تقول لقمتُ بالإجراءات اللازمة، سواء تعلَّق الأمر بطلب الجنسية الفرنسية أم ببطاقة إقامةٍ طويلة المدى. لديَّ جميع الوثائق التي تخوِّل لي هذا الحق.
تساءل العميد بصوت مرتفع واستفزازي:
- هذا الحق؟ أي حق؟
- أبي استشهد دفاعا عن فرنسا يا سيدي العميد. إنه "محجور الوطن" حسب القانون الفرنسي. من حقي إذاً كوريث وكابنٍ له أن أطالب بالإقامة الدائمة أو غيرها، ولكنني لم أفعل.
قطّب موظف الشرطة حاجبيه ثم واصل:
- إذاً لماذا تلح على الزواج من الآنسة "ميلوديا" إن لم يكن ذلك من أجل تسوية وضعيتك في بلادنا؟ ثم إنك قمت بتهريب قاصرةٍ من بيت والديها، هذا شيء يعاقب عليه القانون! أُنظُر، هذه شكاية والدها يتهمك فيها بذلك!
وقف صاحبي مبهورا. صرخ:
- "ميلوديا" ليست بقاصرة. إنها في السابعة والعشرين من عمرها و... أنا لا أفهم شيئا، أنا لم ألزمها بشيء...
قاطعه رجل السلطة وهو يعرض أوراقا وملفات على سطح مكتبه:
- اجلِس من فضلك واسمعني، لا مجال للنرفزة، لن ينفعك ذلك في شيء. هذه شكوى الأب السيد "مارتان"، وهذه وثائق طبية شرعية تثبت قصور الآنسة "ميلوديا" التي لا يمكن أن تخرج عن طاعة أبويها. وهذا قرار السيّد عمدة الدائرة حيث يلتزم بعدم تزويجِكُما في مقر دائرته. وهذه وثيقة والي المدينة تثبت أن الحصول على بطاقة الإقامة مستحيل عن طريق الزواج المشكوك فيه...
ابتسم بخبث ثم أضاف:
- كما ترى يا سيد "عزُّوز" إن لعبتك لا تنطلي على أحد!

"انتصبتُ واقفاً رغما عني وهرولت خارج مركز الشرطة. لم أكن أصدق شيئا وأنا أستحضر الشعار المتآكل: "حرية، مساواة، إخاء". وجدت نفسي أخيرا في البيت. لما رأتني "ميلوديا" وقد علا وجهها الملائكي شحوب لا سابق له بادرت إلى القول:
- أعرف كل شيء يا "عزُّوز"... منذ لحظة كان أبي على خط الهاتف... لقد انتصر علينا هذا اللعين... إنه وغْد... أكرهه... أكرهه...
وأجهشت بالبكاء".

لم يصدر عن "عزُّوز" أي تعليق. تاه في شوارع باريس حتى منتصف الليل ثم عاد إلى البيت. كان ملاكه في انتظاره بعينين مبللتين بالدموع وثغر يقذف كثيرا من التساؤلات والكلام. أما هو فقد أصابته فجأة لَقوةٌ أو ما يشبه ذلك. لم يعد قادرا علي النبس بكلمة واحدة. هرع مباشرة إلى غرفة النوم، استلقى بكل ثقله على السرير وغاص في نوم يشبه الغيبوبة. استيقظ في عز الليل، كتب بضع صفحات وتركها دون أن يعيد قراءتها على مائدة المطبخ. جمع بعض أمتعته وأخذ ينتظر بزوغ خيوط الفجر.
لما حان الوقت غادر الشقة باحتياط شديد. غادر البيت كلص أو كأي امرئ آخر لا يريد أن يترك خلفه أثرا يذكر. في محطة السكة الحديدية استقل أول قطار في اتجاه مدينة "ليون".
كنتُ مضغة للتساؤلات. كنت أحاول أن أعطي لميلوديا في مخيلتي وجهاً وجسداً. كنت أحاول أن أتذكر لقاءهما الأول وأن... كنت أحاول وأحاول... اغتنمتُ فرصة صمته لأسأله:
- ذكِّرني بلقائكما الأول. لقد نسيت ذلك.
قال: حصل الأمر في وكالة بنكية. كنّا حشدا من البشر مصطفِّين في طابور من أجل قضاء أغراضنا. كانت هيّ أمامي وكانت نظرات الزبناء تخترقها وهي تتقدم بخطوات خجولة نحو الشباك. رأيتها تجهِد النفس وهي تحاول أن تدلي بوثائقها إلى موظفة البنك. كان الحاجز مرتفعا بالمقارنة مع قامَتِها. ظلت الموظفة اللامبالية متهالكة على مقعدها وهي تنتظر. آلمَني أمرُ الزبونة المسكينة وهي تحاول أن تقف وجها لوجه أمام الموظفة. ترددْتُ قبل أن أسرع إليها. طلبتُ إذْنَها ودون انتظار جوابٍ منها حملتُها بين ذراعيَّ كطفلة لتصبح تماما قُبالَة الموظفة الكسولة. صرفَتْ شيكَها ووقَّعت على ورقة أخرى وانتهت من مهمتها. توجّهَت إلي شاكرة وانصرفت مبتسمة. كانت هناك نظراتٌ تخترقني، نظرات الزبناء الآخرين التي تنوَّعَت واختلفَت... ثم كان دوري الذي خلاله كانت موظفة المصرف ترمقني باستفزاز وسخط…
وأنا أغادر المؤسسة المالية وجدتها في انتظاري. انهالت عليّ شكرا مرة أخرى... وانتهى بنا الأمر إلى المقهى حيث لبَّيتُ دعوتَها.
- اسمي "عزُّوز".
- أنا "ميلوديا"... "ميلوديا مارتان". ماذا تفعل في الحياة؟
- معلم رياضة في "دار الشباب". وأنتِ؟
- أنا...
وتشعَّب الحديث... طال الحديث... ".

كنتُ طُعماً سائغا للتساؤلات والفضول المشروع. خمّنتُ في لحظة ما أن "عزُّوز" ارتبك وغادر "باريس" تحت وطأة وتأثير الانفعال وخيبة الأمل ليس إلا. إن فرنسا أرض الحق والقانون كما يُردَّد كثيرا، عدالتُها مستقلة لا ترحم الصغير ولا الكبير، ولعلّ سلوك عميد الشرطة كان بتواطئ مع والد "ميلوديا" لكي يرهباه ويرعباه ويجعلاه من ثمة يتخلى عن المرأة التي أحبته بجنون.
امرأة قاصرة حسب الوثائق الشرعية؟ كيف؟ ماذا يعني ذلك؟ هل حقا ما فهمتُه كان هو الحقيقة؟... كان عليَّ أن أطرح السؤال على "عزُّوز" الذي أجابني وهو متداعٍ على مقعده:
- إنها ليست بقاصرة بل قصيرة. فقط قصيرة القامة. إنّ لها قامة أختك "البزيويَّة". هل تتذكر أختَك على الأقل؟
انمحت شكوكي وزال اللبس. تذكرت أختي بقامتها القصيرة التي لا تتعدى المتْر الواحد وبضع سنتيمترات. تساقطت مجموعة الأوراق والقلم من بين يديّ. لم أكتب من قصَّتِه شيئا ولم أستطع تفادي السؤال:
- أَأحْبَبتَ قزماً؟ أنتَ العملاق المفتول العضلات؟
أطرق برهة ثم تمتم وهو يتنهّد بعمق:
- أجل يا صديقي. ولم يصدِّقني أحد... أُكتُب... أكتُب...

ردَّدتُ كما لو كنتُ أهمس لنفسي: أنا يا صاحبي لست بكاتب قصص ولا بشاعر. أما النُّصوص التي أشرتَ إليها فتعود إلى سنين المراهقة، وذاك عهد مضى كما تعلم. لم أعد أقوى على كتابة حرف واحد في هذه البلاد.
أُكتبْها وتوكَّل على الله.

أجبتُه: أنا يا صاحبي لست بكاتب قصص ولا بشاعر. أما النُّصوص التي أشرتَ إليها فتعود إلى سنين المراهقة، وذاك عهد مضى كما تعلم. لم أعد أقوى على كتابة حرف واحد في هذه البلاد.

ألَحّ: لا عليك. أُكتُب قصتي وسوف ترى...

قاطعته متبرما وقد أزعجني إلحاحه: لا أستطيع... وأكثر من ذلك أين سأنشر قصتك؟ لا أحد يعرفني، لا هنا أو هناك أو في أي مكان آخر... لا مجلة ولا صحيفة ولا هم يحزنون. أين سأنشر قصتك؟ أَعلى سطحِ البيت كالغسيل؟

ردّد ببرودة دمه المعهودة: أنت لا تعرف قيمتك، أنت ضحية لتواضعك، اِفعل ما أقول لك وسوف يأتيك الفرج بإذن الله. صدِّقني. خذ قلما وورقاً واستمع إليّ...

أذعنت للأمر علما مني بأنه لن يخلي سبيلي إلا بعد أن ينال بغيته، هكذا كان دائما ولم يغير من نفسه شيئا. كانت السنوات العشر التي قضاها في "باريس" البعيدة بمئات الكيلومترات عن مدينة "ليون" حيث أقيمُ كفيلة بأن تريحني منه كصديق عرفته منذ الطفولة. لقد غاب عني طوال هذه السنين ولم يصلني منه إلا نتف أخبار كانت تأتيني من هنا وهناك. ها قد تذكَّرني فجأة وعاد بعد كل هذا الغياب، وقد كنت أظنه نسيني وذاب في روتين حياته اليومية الباريسية تلك. عاد وفي جعبته ما يزعجني. ولكن ما عساي أن أفعل؟ إنّ للصداقة أحكاما! أليس كذلك؟

تناولت قلما ومجموعة الورق وتصنَّعت وضع الذي يهُمّ بالكتابة. بدا على وجهه انشراحٌ ما، وردد مسرورا كطفل: هيّا، هيّا... أُكتُب...

- ماذا تريد أن أكتب؟

قال متلعثماً في البداية: "عن الملاك تحدثت به الكتب السماوية، وبه تغنى الشعراء، ووصفَه عباقرة الفن والأدب... أمَّا أنا فقد وجدته ورأيته وعِشتُه وعرفته عن قرب... ".

استغربت لما يقول وخلت أن بعقله مسّا من الجنون. ازددتُ تظاهرا بالكتابة عساه يسارع إلى تتمة الحكاية التي أخذت تحرك فضولي. أضاف بعد أن بلع ريقه: "اِسمَع، سأطلق العنان لنفسي في الكلام، وما عليك سوى أن ترتب الأحداث فيما بعد حسب هواك. لست في هذه اللحظة أقوى على التركيز لأن الكلمات والصور تتزاحم في رأسي وفي حنجرتي... ماذا حصل؟... حصل ذلك في مكان ما... في محلًّ عموميّ. هذا لا يهمّ. ما يهمّ هو أنني أحببتها كما لم أحبَّ امرأة من قبل. حملتُها في قلبي، في جوارحي، في عينيَّ وفي كياني... جُننت بها وجُنَّت بي فيما بعد. كانت قد دعتني إلى شرب كأس لكي تشكرني على الخدمة التي أسديتُ إليها. وافقتُ للتو وتبعتها. كان جسدها الوديع يجرني كالمغناطيس بطريقة غريبة وناذرة. في المقهى تناولت هيّ شايا أسود وفضّلت أنا قهوة سوداء. نعَم، نَعم، القهوة لا يمكن أن تكون إلا سوداء. أعرف ذلك فدَعْ ملاحظتك عندك، ليس هذا أوان المزاح. كانت جالسة أمامي بجسدها الصغير كطفلة. بهرني جمال وجهها بالرغم من كل شيء. طربت لصوتها الدافئ الحالم الذي كانت نبراته تسافر بي عبر السماوات السبع وما فوق. خشيتُ على نفسي منها! لماذا؟ لأنني... لأنني أحسست بأنها هيّ... هيّ التي كنت أنتظر... ربّما. لم أكن متأكدا من شيء... لست تدري بأن "ميلوديا" فتحت لي آفاقَ جديدةً لم أعهدها من قبل على مستوى الروح والجسد. ألم تقل أنت نفسك يوما بأن الجسد عرَضٌ في حين أنَّ الجوهر دائمٌ خالدٌ و... "

قاطعتُه وبي من الفضول ما فاق الحد:

- لا أذكر شيئا من ذلك. ولكن حكايتك لا رأس لها ولا أساس؟ ماذا تريد أن تقول في العمق؟ اختصِر.

تنحنح قبل أن يستطرد:

- الأساس كان "ميلوديا"، والرأس كان "ميلوديا"... أُكتُب... أُكتُب...

تظاهرت بالكتابة. أضاف: "تِلْو لقائنا الأول افترقنا بعد تبادل أرقام الهاتف. في اليوم نفسه رن التلفون في بيتي قبيل منتصف الليل. كانت هيّ وراء الخط وكنت سعيدا بذلك. دامت المكالمة ساعة ونصف. كانت قد أدركتْ خلال لقائنا في المقهى ولعي بالأدب الفرنسي بعد الرياضة. لذلك أطعمتْني مزيدا من الأشياء عن "بودلير" و"رامبو" و"لافونتين"... وعرَّجَت على "ابن المقفع" و"الجاحظ" اللذين عرفتْهما عن طريق الترجمة وبعض قراءاتها الطفيفة للأدب العربي القديم كما قالت بتواضع ناذر. هل تدري بماذا أجبتها حين انتهت من كلامها؟ لقد صرحت لها بجرأة غير معهودة: أُحبك يا "ميلوديا"! أجابتني بعد صمتٍ مُوحٍ: "أنا أيضا يا "عزُّوز"... ولكن جسدك وجسدي لا يمكن أن يلتقيا. وإن التقيا فلن يلتحما إلى الأبد". هكذا كان. شيء لا يصدَّق أليس كذلك؟ ولكن تأكَّد بأن تلك هي الحقيقة. سألتها: "ما الأبد؟ قالت: أعني بذلك أن الطريق مسدود أمامنا. جسدي لا شيء أمام جسدك المليء بالحياة، أمام جسدك الشغوف بالرياضة. هل تفهمني؟".

لاح له بأن يمناي كفَّت عن الحركة ولم تعد تخربش شيئا على الورق. غرز فيها نظرات عينيه، ثم نقل نفس النظرات نحوي وسأل:

- لماذا توقفتَ عن الكتابة؟

طمأنته مبتسما: لا عليك. إنني أكتب، أو بالأحرى أحاول ذلك. استمِر.

عاد إلى حديثه الذي كان يذكرني بكرسيِّ الاعتراف في حضرة كاهن داخل الكنيسة. فهمت أنه أحبها بجنون وأنها بادلته نفس الشعور. ظل يكرر على سمعي ذلك، وجعلتُ أحثُّه على توضيح أمره دون الدخول في التفاصيل. كان منفعلاً، وكان يشع من عينيه غضب وسخط. ساءني وضعه وأنا أتأمل وجهه وكامل بنيته التي ما كان أقواها بفضل تعاطيه للرياضة التي ولع بها منذ الصغر. كان أمامي ذابلا منهارا كاليائس الذي لم يعد ينتظر من الحياة أي شيء.

لم أكتب شيئا مما حكى، ولكنني أعرته سمعي بصبر وفضول. علِمتُ من بين ما علمتُ أن زيارته لي وتوقفَه في مدينة "ليون" ليس سوى محطة في طريق عودته النهائية إلى أرض الوطن، هو الذي اندمج بالمعنى الإيجابي والكامل في هذا المجتمع!

أعرته سمعي حين خاض في الكلام. كان يتحدث هذه المرة بطريقة آلية، بدون انفعال ولا عصبية أو توقُّف.

طال اختلافهما على بعض. وحين تأكد الواحد منهما من صدق مشاعر الآخر عقدا العزم على أن يرتبطا عبر مصير واحد مشترك داخل بيت يضمهما معاً. من قبْلُ كانت تحدثه عن أهلها وعن الفرصة التي لا بد ستأتي لكي تُقدِّم لأبويها حبيبَها وشريكَ حياتها القادمة. حلَّت إذاً هذه المناسبة التي انتظرتْها طويلا، ولكنْ حلّت المفاجأة أيضا وخيبةُ الأمل: حين علم السيد "مارتان" بالأصل العربي لفارس أحلام ابنته الوحيدة وقف متصلبا كالجبل ووطَّد العزم بكل ما يملك من قوة على الحيلولة دون هذا الارتباط الذي لم يكن في حسبانه قط. صال وجال، أرغى وأزبد، قلب الأرض وأقعدها، ثم أقسم بأنْ لا مكان في بيته لعربيٍّ كيفما كان، وأنه لن ينحطّ حتى المرتبة الدُّنيا ليجد نفسه مستقبِلاً لمخلوقٍ من هذا الصِّنف ليصبح صهرا له وزوجا أو في أقل الحالات خليلا لبنته و... و... و...

قال:

"ولملمتْ "ميلوديا" أمتعتها لكي تستقر في بيتي. قطعَتْ حبل الاتصال بينها وبين ذويها. ساءني طبعاً أن تتخذ الأمور ذلك المجرى، وساءني أكثر الموقفُ السلبيّ الذي وقفه طواعية السيد "مارتان". كانت تقول لي حين تراني ساهما واجما :

- إن أبي لطيف في العمق ولا علاقة له بالعنصرية. لسوف يلين مع مرور الوقت. مشكلته الحقيقية هي أنه شارك في حرب الجزائر وترك في نفسه ذلك أثرا سلبيا.

كانت كلما كررت ذلك وكأنها تعزي نفسها أولا، ظانةً أن السيد الأب سيظهر على الساحة إن عاجلا أو آجلا، كنتُ أجيبها بابتسامة عفوية مؤاسية، ثم أضمها إليّ دون تعليق آخر. وبعد ذلك سرعان ما نتحوَّل معا إلى طفلين مشاغبين. كان يحلو لها أن أطاردها عبر أبعاد الشقة حيث تختفي خلف بعض الأثاث أو تحت المائدة في المطبخ، وحين أمسكها أخيرا كنت أرفعها في الهواء كدمية ثم أتلقفها بذراعيّ وأعيد الكرَّة مرات حتى تُصدِر مزيجا من الضحك والصراخ كما لو كانت طفلة في سنواتها الأولى. تلك كانت لعبتها بل لعبتنا المفضلة حيث ننسى كل شيء...

قررنا في نهاية المطاف أن نتزوج رغم أنف الجميع. أخذَتْ موعدا لدى عُمدة الدائرة الحضرية، وعكفنا على تحضير الوثائق الرسمية اللازمة لتكوين ملف القِران حسبما يتطلبه القانون. كان الأمر يتعلق ببضعة أيام ويتمّ كل شيء. نعم يا صديقي، لقد تمَّ كل شيء! لقد انتهى كلُّ شيء!".

أصابت صوتَه غصةٌ فتوقَّف عن الكلام برهة. تناول جرعة ماء قبل أن يستمر في سرد معاناته. كنت أفكر فيما قال، فيما عاش وعانى وفيما كان يقول مع ما يواكب ذلك من إجهاد في استحضار الذكريات المُحرِقة.

استيقظ ذات صباح ثم هرع كالعادة إلى صندوق البريد. أثارت انتباهه رسالة خاصة كانت مدسوسة بين الرسائل الأخرى التي احتواها الصندوق. كان مكتوبا على الغلاف عنوان مركز الشرطة. فضَّ الغلاف بعجالة وسحب من داخله الاستدعاء الرسمي الذي كان يأمره بالحضور أمام رئيس القسم في أقرب الآجال لأجل غرض هام. ارتبك لحظة حائرا في الأمر متطيِّرا، فكل الظروف من قبل لم تسمح له أن يكوِّن صورة طيبة عن شرطة هذا البلد. وأكثر من ذلك لم يسبق أن صدر عنه أي سلوك يتطلّب أن يقوم باستدعائه رجال أمن هذه الأرض السعيدة! تساءل طويلا عن ماهية "الغرض الهامّ" وعزم على تلبية الدعوة في زوال نفس اليوم.

تناول رئيس القسم بطاقة الإقامة الخاصة بصاحبي وفحصها بعناية كما لو كان أمام وثيقة رسمية طالَها التزوير. نقَّب في جهاز الكمبيوتر عن معلومات ما، وبعد ذلك قال بنبرة جافة:

- بطاقتك هذه يجب أن تُجدَّد كل سنة، أليس كذلك؟

- نعم سيّدي العميد.

- هذا يعني أنّ وجودك في فرنسا أمرٌ مؤقت. طبعا أنت تحلم مثل كثير من أمثالك بالحصول على إقامة دائمة؟

أجاب صديقي بنوع من الاحتجاج:

- سيدي لو كان حلمي كما تقول لقمتُ بالإجراءات اللازمة، سواء تعلَّق الأمر بطلب الجنسية الفرنسية أم ببطاقة إقامةٍ طويلة المدى. لديَّ جميع الوثائق التي تخوِّل لي هذا الحق.

تساءل العميد بصوت مرتفع واستفزازي:

- هذا الحق؟ أي حق؟

- أبي استشهد دفاعا عن فرنسا يا سيدي العميد. إنه "محجور الوطن" حسب القانون الفرنسي. من حقي إذاً كوريث وكابنٍ له أن أطالب بالإقامة الدائمة أو غيرها، ولكنني لم أفعل.

قطّب موظف الشرطة حاجبيه ثم واصل:

- إذاً لماذا تلح على الزواج من الآنسة "ميلوديا" إن لم يكن ذلك من أجل تسوية وضعيتك في بلادنا؟ ثم إنك قمت بتهريب قاصرةٍ من بيت والديها، هذا شيء يعاقب عليه القانون! أُنظُر، هذه شكاية والدها يتهمك فيها بذلك!

وقف صاحبي مبهورا. صرخ:

- "ميلوديا" ليست بقاصرة. إنها في السابعة والعشرين من عمرها و... أنا لا أفهم شيئا، أنا لم ألزمها بشيء...

قاطعه رجل السلطة وهو يعرض أوراقا وملفات على سطح مكتبه:

- اجلِس من فضلك واسمعني، لا مجال للنرفزة، لن ينفعك ذلك في شيء. هذه شكوى الأب السيد "مارتان"، وهذه وثائق طبية شرعية تثبت قصور الآنسة "ميلوديا" التي لا يمكن أن تخرج عن طاعة أبويها. وهذا قرار السيّد عمدة الدائرة حيث يلتزم بعدم تزويجِكُما في مقر دائرته. وهذه وثيقة والي المدينة تثبت أن الحصول على بطاقة الإقامة مستحيل عن طريق الزواج المشكوك فيه...

ابتسم بخبث ثم أضاف:

- كما ترى يا سيد "عزُّوز" إن لعبتك لا تنطلي على أحد!

"انتصبتُ واقفاً رغما عني وهرولت خارج مركز الشرطة. لم أكن أصدق شيئا وأنا أستحضر الشعار المتآكل: "حرية، مساواة، إخاء". وجدت نفسي أخيرا في البيت. لما رأتني "ميلوديا" وقد علا وجهها الملائكي شحوب لا سابق له بادرت إلى القول:

- أعرف كل شيء يا "عزُّوز"... منذ لحظة كان أبي على خط الهاتف... لقد انتصر علينا هذا اللعين... إنه وغْد... أكرهه... أكرهه...

وأجهشت بالبكاء".

لم يصدر عن "عزُّوز" أي تعليق. تاه في شوارع باريس حتى منتصف الليل ثم عاد إلى البيت. كان ملاكه في انتظاره بعينين مبللتين بالدموع وثغر يقذف كثيرا من التساؤلات والكلام. أما هو فقد أصابته فجأة لَقوةٌ أو ما يشبه ذلك. لم يعد قادرا علي النبس بكلمة واحدة. هرع مباشرة إلى غرفة النوم، استلقى بكل ثقله على السرير وغاص في نوم يشبه الغيبوبة. استيقظ في عز الليل، كتب بضع صفحات وتركها دون أن يعيد قراءتها على مائدة المطبخ. جمع بعض أمتعته وأخذ ينتظر بزوغ خيوط الفجر.

لما حان الوقت غادر الشقة باحتياط شديد. غادر البيت كلص أو كأي امرئ آخر لا يريد أن يترك خلفه أثرا يذكر. في محطة السكة الحديدية استقل أول قطار في اتجاه مدينة "ليون".

كنتُ مضغة للتساؤلات. كنت أحاول أن أعطي لميلوديا في مخيلتي وجهاً وجسداً. كنت أحاول أن أتذكر لقاءهما الأول وأن... كنت أحاول وأحاول... اغتنمتُ فرصة صمته لأسأله:

- ذكِّرني بلقائكما الأول. لقد نسيت ذلك.

قال: حصل الأمر في وكالة بنكية. كنّا حشدا من البشر مصطفِّين في طابور من أجل قضاء أغراضنا. كانت هيّ أمامي وكانت نظرات الزبناء تخترقها وهي تتقدم بخطوات خجولة نحو الشباك. رأيتها تجهِد النفس وهي تحاول أن تدلي بوثائقها إلى موظفة البنك. كان الحاجز مرتفعا بالمقارنة مع قامَتِها. ظلت الموظفة اللامبالية متهالكة على مقعدها وهي تنتظر. آلمَني أمرُ الزبونة المسكينة وهي تحاول أن تقف وجها لوجه أمام الموظفة. ترددْتُ قبل أن أسرع إليها. طلبتُ إذْنَها ودون انتظار جوابٍ منها حملتُها بين ذراعيَّ كطفلة لتصبح تماما قُبالَة الموظفة الكسولة. صرفَتْ شيكَها ووقَّعت على ورقة أخرى وانتهت من مهمتها. توجّهَت إلي شاكرة وانصرفت مبتسمة. كانت هناك نظراتٌ تخترقني، نظرات الزبناء الآخرين التي تنوَّعَت واختلفَت... ثم كان دوري الذي خلاله كانت موظفة المصرف ترمقني باستفزاز وسخط

وأنا أغادر المؤسسة المالية وجدتها في انتظاري. انهالت عليّ شكرا مرة أخرى... وانتهى بنا الأمر إلى المقهى حيث لبَّيتُ دعوتَها.

- اسمي "عزُّوز".

- أنا "ميلوديا"... "ميلوديا مارتان". ماذا تفعل في الحياة؟

- معلم رياضة في "دار الشباب". وأنتِ؟

- أنا...

وتشعَّب الحديث... طال الحديث... ".

كنتُ طُعماً سائغا للتساؤلات والفضول المشروع. خمّنتُ في لحظة ما أن "عزُّوز" ارتبك وغادر "باريس" تحت وطأة وتأثير الانفعال وخيبة الأمل ليس إلا. إن فرنسا أرض الحق والقانون كما يُردَّد كثيرا، عدالتُها مستقلة لا ترحم الصغير ولا الكبير، ولعلّ سلوك عميد الشرطة كان بتواطئ مع والد "ميلوديا" لكي يرهباه ويرعباه ويجعلاه من ثمة يتخلى عن المرأة التي أحبته بجنون.

امرأة قاصرة حسب الوثائق الشرعية؟ كيف؟ ماذا يعني ذلك؟ هل حقا ما فهمتُه كان هو الحقيقة؟... كان عليَّ أن أطرح السؤال على "عزُّوز" الذي أجابني وهو متداعٍ على مقعده:

- إنها ليست بقاصرة بل قصيرة. فقط قصيرة القامة. إنّ لها قامة أختك "البزيويَّة". هل تتذكر أختَك على الأقل؟

انمحت شكوكي وزال اللبس. تذكرت أختي بقامتها القصيرة التي لا تتعدى المتْر الواحد وبضع سنتيمترات. تساقطت مجموعة الأوراق والقلم من بين يديّ. لم أكتب من قصَّتِه شيئا ولم أستطع تفادي السؤال:

- أَأحْبَبتَ قزماً؟ أنتَ العملاق المفتول العضلات؟

أطرق برهة ثم تمتم وهو يتنهّد بعمق:

- أجل يا صديقي. ولم يصدِّقني أحد... أُكتُب... أكتُب...

ردَّدتُ كما لو كنتُ أهمس لنفسي: أنا يا صاحبي لست بكاتب قصص ولا بشاعر. أما النُّصوص التي أشرتَ إليها فتعود إلى سنين المراهقة، وذاك عهد مضى كما تعلم. لم أعد أقوى على كتابة حرف واحد في هذه البلاد.

Aucun commentaire: